Karl Sharro

Articles

Blog

Contact

Home

News

About

بغداد بعد الحصار

 

كارل شرو

 

العائد إلى بغداد بعد غياب عشر سنوات، يفترض ان المدينة لم تتغير كثيراً. و فعلاً،  لم تتغيرالمدينة مادياً كثيراً منذ نهاية حرب الخليج الثانية و فرض العقوبات الإقتصادية على العراق. و لكن تحت هذا المظهر الخادع ، إختبرت المدينة تغيرات جذرية في إقتصادها و إجتماعها و ثقافتها و ممارستها الفضائية ، يمكن القول أن بغداد جديدة قد ولدت ، تسكن الهيكل المادي نفسه لمدينة ما قبل الحصار، و لكنها تختلف عنها بشكل واضح على مستويات عديدة.

 

في إقتصاد الحصار

 

لعل أكثر التغيرات وضوحاً منذ الثمانينات هو تكون و ظهور إقتصاد هجين ، هو إقتصاد سوق حر على المستوى المايكرو إقتصادي مع خصائص مميزة عديدة ، لكنه يحافظ على المستوى الماكرو إقتصادي على خصائص الإقتصاد الإشتراكي الموجه من الدولة.

فعلى الصعيد النقدي و حرية تبادل العملات ، تم رفع القيود السابقة كلياً و لم يعد هناك عملياً اية قيود على تبادل العملات اللأجنبية ، و بموازاة ذلك ، لم يعد هناك اية ضرائب أو رسوم جمركية على المواد المستوردة في حين انها كانت تخضع لرسوم عالية جداً في السابق. ولكن في المقابل

تراقب الأمم المتحدة كل ما يدخل الى العراق ، بناءأً على الإستعمالات العسكرية المحتملة ، وهو تعريف مطاط جداً قد يشمل حتى اقلام الرصاص و تمارس السلطات العراقية رقابة شديدة على المنتوجات التي تعتبرها خطيرة ، و هي تتضمن الكتب و الافلام و الإنتاجات الثقافية المختلفة . هاذان العاملان ، إلى جانب تدني القدرة الشرائية لمعظم العراقيين مما يجعل المواد المستوردة فوق مستوى الدخل ، هاذان العاملان ينتجان الخصائص الأكثر فرادة لإقتصاد الحصار. في هذه الظروف ، تكتسب الأغراض قيمة تبادلية لا متناهية و تستمر إعادة إستعمالها مراراً و تكراراً . هذا النشاط الإقتصادي يمارس في أسواق متعددة للمواد المستعملة تنتشر في أرجاء بغداد ، مثل سوق شارع المتنبي للكتب المستعملة و اسواق أخرى "متخصصة".

و بسبب الحاجة المادية ، يقوم الكثيرون ببيع الأغراض المنزلية المختلفة للإستمرار في العيش ، و يضطرون إلى الأستغناء عن الكثير من الأدوات الأساسية كالمغاسل و الأقدار و الأطباق . و رغم مأساوية هذا الأمر ، إلا أن الملاحظة المثيرة للإهتمام هي أن هناك الكثيرون من اللذين يقومون بشراء هذه الأغراض ، منتجين بذالك هذا النشاط الإقتصادي الذي يدور حول عدد محدود من السلع يتم إعادة أستهلاكها بشكل مستمر في هذه الأسواق ، و هكذا تكتسب هذه الأغراض قيمة تبادلية تفوق و تحل مكان قيمتها الوظيفية.

إلى جانب أسواق السلع المستعملة ، نشأ نوع آخر من الأسواق خلال السنوات الأخيرة ، كنتيجة لفتح باب إستيراد السلع الأجنبية الرخيصة و حاجة العراقي العادي لزيادة دخله من مصادر مختلفة . قام العديدون بتحويل اجزاء من منازلهم الى دكاكين مستحدثة عادة عبر إزالة الجدران التي تفصل غرف الجلوس عن الشارع ، من خلال هذه التغييرات البسيطة نشأت أسواق شعبية مزدحمة في شوارع كانت سكنية و هادئة من قبل. هذه الاسواق توفر مواقع لنشاطات اقتصادية صغيرة تمتد حتى وقت متأخر من الليل مما يشكل مؤشرا ليس فقط على اهميتها الاقتصادية بل ايضا على استيعابها لنشاطات اجتماعية عبر توفيرها لامكنة غير رسمية للتلاقي. يمكن الملاحظة بان هذا الدور مشابه للدور الذي تلعبه مجمعات التسوق الكبرى التي ابتكرت في الولايات المتحدة و التي توفر امكنة تلاقي و تسكع بهدف اجتذاب متسوقين محتملين. غير ان اسواق بغداد لا تمارس هذا الدور بشكل مخطط له بل بشكل عفوي يعبر عن حاجات سكان المدينة المتغيرة و اعادة انتاجهم لفضاء مدينتهم ليستوعب هذه الحاجات.

من جانب آخر، يؤدي ادخال الوظيفة التجارية الى داخل الحيز السكني الى انتاج نموذج سكني جديد تتداخل فيه العلاقة بين الفضاء العام و الفضاء الخاص و يصبح الحد الفاصل بينهما مبهما. 

كل هذه التحولات غير الرسمية على المستوى الإقتصادي أنتجت تحولات جذرية في طبيعة الشوارع في بغداد و حددت انماط جديدة من التبادل الإقتصادي لها تأثيرها الفضائي على المدينة.

 

1984و المدينة السياسية

 

كتاب جورج أورويل "1984" هو أحد الكتب الأنكليزية الأكثر رواجاً في سوق شارع المتنبي للكتب المستعملة . في أي يوم ، يمكن أن نعثر على نسخات متعددة لدى بائعين مختلفين (معظم هؤلاء البائعين هم من المثقفين الذين أجبروا على بيع كتبهم لكسب المال ، و لكن هناك أيضاً العديد من البائعين  الأميين الذين يبيعون الكتب بالكيلوغرام.) تولد قراءة "1984" على خلفية بغداد الكثير من الملاحظات المثيرة. أوجه الشبه بين المدينة في "1984" و بغداد كثيرة و لكن أبرزها الدور الذي تلعبه الأيقونة السياسية . فصور و رسومات الرئيس العراقي تتكرر بشكل لا متناهي في بغداد ، مكررة تواتر صور " الأخ الأكبر" في "1984" . لكن هذا التكرار الامتناهي الذي يشبه لوحات أندي وورهول ، يفرغ الصور من معناها و يحولها الى ترداد لا نهاية له. هذا العدد الكبير من الرسومات و اللوحات له وتيرة مشابهة لللوحات الاعلانية في مدن اخرى ويتشابه مع تلك اللوحات الاعلانية بقياساتها و مواقعها و وسائل عرضها، الا ان الاختلاف يكمن في ان اللوحات الاعلانية تحاول مخاطبة مشاهديها لترويج سلع معينة فيما ان صور الرئيس العراقي يراد لها مهمة اخرى وهي السيطرة على الفضاء البصري للمدينة. يمكن القول ان بغداد أصبحت مأهولة من صور لا تخاطب بل تهيمن.

بالإضافة الى صور الرئيس العراقي ، تم بناء العديد من الأنصاب العامة الضخمة في أرجاء مختلفة من المدينة ، مثل نصب النصر، و هو نسخة مطابقة ليدي الرئيس العراقي بإرتفاع ستة طوابق ، حاملتين لسيفين متشابكين بشكل قوس. تحت القوس تتناثر مئات الخوذات لجنود ايرانيين تعود إلى الحرب العراقية - الإيرانية . تتناقض هلوسات السلطة و النصر هذه بشكل عنيف مع الواقع المعاش لسكان بغداد. التشابهات مع "1984" عديدة . فالفصل بين عالم أعضاء الحزب و عالم "البرولز" في "1984" يتشابه مع الوضع الفصامي الذي هو قائم بين بغداد الخطاب الرسمي و بغداد قاطنيها.

هذا الفصل الإيديولوجي - الفضائي يجد إستعادة ملائمة في عالم "البرولز" الفوضوي و غير المنظم  الخاضع رغم ذلك للحزب ، بشكل مماثل لوضع سكان بغداد الذي أعفيوا خلال السنوات العشر الأخيرة من الإدعاءات الإشتراكية للنظام العراقي ، و أفهموا منطق السلطة المطلقة بشكل كثير الوضوح.

تحتفل بعض أنصاب بغداد بإنتصار العراق في حرب الخليج الثانية على الولايات المتحدة و حلفائها. ففي بغداد ، هذه الحرب ربحت و لم تخسر. يذكرنا هذا بممارسة "الحزب" في "1984" الذي يعيد كتابة التاريخ بشكل مستمر ليتلائم مع حاجات الحاضر. فوظيفة الشخصية الأساسية في "1984" هي أن "يصحح التاريخ".  بطريقة مماثلة، تمت إعادة كتابة أحداث حرب الخليج في بغداد لجعل العراق منتصراً في الحرب. إعادة الكتابة هذه هي القرائة السائدة للحرب في بغداد ، و هي تعبر عن نفسها بإستمرار من خلال كتب التاريخ ووسائل الإعلام و تحديداً من خلال الانصاب التي تحرس المدينة.

التشابهات مع "1984" تظهر الجانب الثاني من التحولات الأساسية التي شهدتها بغداد خلال السنوات العشر المنصرمة ، بشكل أساسي تحول الفضاء الأيديولوجي للمدينة ، الذي كان يعبر عنه من خلال الشعارات الإشتراكية مثلاً ، إلى فضاء يحكمه منطق السلطة المطلقة و الصرفة.

 

العباية و الفضاء العام

 

من المثير للإهتمام أن نلاحظ أنه رغم أن السلطة المركزية للدولة حاضرة بإستمرار في بغداد فإن أجهزتها الأساسية التي لا تلعب دوراً في حماية النظام القائم قد تأكلت. فالشرطة مثلاً لم تعد تمارس أي دور لحماية المواطنين أو منع الجرائم و أصبحت فقط آداة أخرى من أدوات السلطة التي يتم إستغلالها ممن هم في مراكز تسمح لهم بذلك. و بينما كان النظام يكافح الجريمة بشدة في السابق ، بعض المرتشين كانوا يشنقون مثلاً ، فإنه اليوم يقارب النشاطات الإجرامية بنوع من سياسة عدم التدخل و أهم أسباب هذا التحول هي إقتصادية ، فالعقوبات الإقتصادية أدت إلى تكوين منظمة مسلحة بشكل جيد و لكن أفرادها لا يتقاضون أجوراً مناسبة ، تأقلمت مع وقائع الحياة في فترة ما بعد الحرب عبر إستغلالها للسلطة التي تحوزها للكسب المادي . نتيجة لذلك ، ليس هناك إحساس بالأمن و السلامة الفرديتين لدى المواطنين في بغداد ، و معدلات الجريمة مرتفعة جداً .

يصبح الفضاء العام لهذه الظروف فضاء خطيراً جداً يملي على المواطنين كيفية التعامل معه. و الوضع أكثر خطورة بالنسبة إلى النساء ، فهن لم يتأثرن فقط بفقدان الأمن بل ايضاً من جراء إنهيار قواعد السلوك الإجتماعية التي تنظم الحياة في المجال العام. في هذه الظروف ، لا يناسب النساء أن يلفتن الأنظار بأي شكل ، و لذلك هناك حاجة كبيرة للتماثل و الإلتباس. هكذا نستطيع فهم الإنتشار الواسع لإرتداء العباية السوداء التقليدية التي تغطي الرأس و جسم المرأة كنتيجة لهذه الحاجة إلى التماثل و عدم لفت الأظار.

في كتابها " وراء الحجاب " تقوم عالمة الإجتماع المغربية فاطمة مرنيسي بمناقشة الحجاب الإسلامي على أنه آداة تسمح للمرأة المسلمة بدخول الفضاء العام الذي هو في تحليلها للعقيدة الإسلامية ذكوري بشكل أساسي. و تفسر إستعمال الحجاب من منطلق الحماية من حضور المرأة الذي يعتبر مهدداً عندما لا يكون مستوعباً من الإطار السكني. بشكل مشابه، تصبح العباية في بغداد مثل الحجاب ، اداة فضائية ضرورية لدخول الفضاء العام و أداة تكفل التجانس و الغموض. و هذه شروط أساسية كي تشعر النساء في بغداد بالأمن في الفضاء العام .

إذن ، الإنتشار الواسع لإستعمال العباية لا يفسر لأسباب دينية ، كما نزع الدارسون الغربيون إلى الإستنتاج ، فهي بالأحرى ممارسة فضائية. فبخلاف إيران، حيث فرض النظام الإسلامي لباساً إلزامياً ، ليس هناك هكذا مطلب من النظام في العراق ، فهو خيار فردي و لا يمكن تفسيره من منطلق الإحياء الديني فقط. بالإضافة إلى ذلك ، حتى المومسات في بغداد يرتدين العباية ، وإن كن يعدلن في طريقة لبسها لإعلان مهنتهن رغم انهن يرتدين ما ترتديه النساء الأخريات.

 

بغداد الأخرى

يوضح مثل العباية كيف تتم إعادة تشكيل الفضاء العام في بغداد كي يتم التأقلم مع الظروف الإجتماعية التي تسود في زمن العقوبات الإقتصادية ، فهو أحد المؤشرات عن التحولات التي تشهدها بغداد من جراء العقوبات ، و كيف تعيد إنتاج نفسها لكي تتكيف مع وقائع الحياة في عالم يبدو فيه أن المكان و الزمان قد تجمدا كنتيجة للعزلة و عدم التواصل.

في عالم أصبحت فيه إعادة التصنيع شرطاً للبقاء ، حتى مورفولجية بغداد يعاد تصنيعها لإنتاج تشكيلات فضائية جديدة تتكيف بشكل أنسب مع النشاطات اليومية لسكانها. بغداد جديدة فقد ولدت من بين جدران مدينة ما قبل الحصار المهيبة ، بغداد يتم تحديدها فضائياً بشكل أساسي.

 

نشرت هذه المقالة في ملحق النهار ٢٠٠١

 

First published in Annahar Cultural Supplement in 2001