Karl Sharro |
Articles |
Blog |
Contact |
Home |
News |
About |
مأزق الفرد في الشرق الأوسط المؤلف: تحرير/ حازم صاغيه Saqi Books, London, 2001
كارل شرو
يبحث هذا الكتاب في مسألة يندر تداولها في الكتابات العربية المعاصرة، ألا وهي الفردانية(Individualsim) و موقع الفرد في المجتمعات العربية في الشرق الأوسط، وعدم تكون ونمو الشخصية الفردية العربية مقارنة مع الشخصية الفردية في الغرب. وتفترض النصوص المختلفة في هذا الكتاب علاقة أساسية بين تكون الشخصية الفردية او الفردانية كمفهوم عام، وبين الحداثة والديمقراطية. وتذهب أبعد من ذلك الى اعتبار الحداثة مفهوم غربي له ارتباط تاريخي بالغرب، وعليه فان المجتمعات الشرق الأوسطية لا يمكن لها الوصول الى الحداثة إلاّ عبر مرورها بعملية تغريب تعيد انتاج القيم التي أتاحت للحداثة ان تتشكل في الغرب، مفسحة المجال بذلك لتكون حداثة شرق اوسطية راسخة.
تدرس النصوص المختلفة العوائق التي حالت دون بروز الفردانية في المجتمعات الشرق الأوسطية وتعزوها الى أسباب مختلفة. يقوم حازم صاغية في المقدمة بتقديم دور الفردانية في المجتمعات الغربية المعاصرة وأهميتها على الصعد المختلفة ولا سيما على الصعيد الاقتصادي في الدور المحوري الذي تلعبه المبادرة الفردية في الاقتصاد المعاصر. كما يعتبر ان العقائد السياسية قد تغيرت بحيث أصبح من المعترف به ان الليبيرالية والفردانية فقط يمكنها محاربة الكليانية (Totalitarianism) في اي مجتمع دون إعاقة التقدم او امكانات الديموقراطية. ويعزو صاغية تطور الفردانية في المجتمعات الغربية الى التطور التاريخي في المسيحية وفق مخطط ماكس ويبير، حيث حال مفهوم الله الغامض، الكوني والمتعالي دون ان تنسب السلطات الدنيوية لنفسها صفات القداسة، كما انه قدم الطبيعة على انها محكومة بقوانين خافية يمكن تبيانها مما سمح باكتشاف العلوم الطبيعية. وهكذا مكّنت الفردانية الشعوب المسيحية من التحرر من قيود التقاليد والانظمة الموروثة.
يعود صاغية في مقالته فيقارن بشكل غير مباشر، هذا النموذج مع الدولة الإسلامية التي كانت دينية منذ نشؤها، وهي ولدت في إطار تسيطر عليه القبلية ولا مكان فيه للفردية، فكان تأثير الإسلام على هذا الإطار "كميا وليس نوعياً" حيث ولدت جماعة جديدة يدين لها المسلمون بالولاء. وعلى هذه الخلفية كان احتمال نشوء نزعات فردانية ضئيلا جداً. ولاحقا اهتمت التجارب الحداثية في المجتمعات الإسلامية بإتقان الجوانب التقنية للتجربة الغربية في الحداثة ولم تهتم بدراسة القيم والأنظمة الفكرية التي انتجت هذه الحداثة.
يبني حسين احمد امين من جهته على مفهوم "السلف الصالح" في الإسلام، و إغلاق باب الإجتهاد على ايام العباسيين مما ادى الى تكون نظرة جامدة الى المعرفة في المجتمعات الإسلامية تنظر الى المعرفة على انها في حوزة الأقدمين والنصوص السالفة وما على المسلمين إلا الرجوع لهذه النصوص لكي يكتشفوا ما خفي عليهم. ويقارن امين بين مفهوم المعرفة هذا والمفهوم الموازي الذي كان يتشكل في أوروبا في نفس الوقت، وهو مفهوم تجريبي مبني على استخدام ما هو معروف لاستكشاف ما هو غير معروف. ويظهر امين كيف ان ظروف معاكسة كانت ولا تزال تسود في المجتمعات الإسلامية وهي تنحو الى اعتبار الأمر المعلوم أكثر اطمئناناً من المجهول. ويعتبر ان هذا المفهوم المعرفي هو الوسيلة الأساسية التي مكنت الحاكم في العالم الإسلامي من الحصول على السلطة الإستبدادية المطلقة. كما يبين كيف ان هذا المفهوم يحد من إمكانية تطور مفهوم الفردانية واحتمال تحدي التقاليد الموروثة من قبل الأفراد والمجموعات في الدول الإسلامية.
قد تكون هذه الأفكار مصدر قلق للكتاب والمفكرين العرب خصوصأ حينما ننظر الى مسألة التغريب واعتبارها مدخلاً الى الحداثة، غير ان طروحات صاغية وأمين والكتاب الآخرين في هذا الكتاب، مغرية بالتوقف عندها والدخول في نقاش جدي مع النص الليبرالي المتاكمل، الذي يطرح أسئلة جدية ومقلقة على التيارات الفكرية السائدة في الشرق الأوسط العربي. فهذا النص الذي يستند على أهم الركائز اليبرالية وهي الفردانية، يستعمل هذا المفهوم لكي يعمل المبضع التحليلي في المجتمعات الشرق الأوسطية و ينتج آراء في الثقافة والدين والمجتمع والسياسية والفلسفة والفن، تبدو على درجة عالية من التزامن والتقارب رغم تفاوت المقالات المختلفة في الكتاب من حيث التزامها بالاتجاه العام او حتى نجاحها في إبراز هذه المجموعة من الآراء. وان كان صدور الكتاب باللغة الإنكليزية يدعو الى الشك في قدرته على توليد هذا النقاش في الأوساط الفكرية العربية، فربما كان السبب من وراء هذا الاختيار هو التوجه الى جمهور غربي اساسا.
يجب الإشارة الى مقالة ايليا حريق التي تتناقض مع باقي المقالات، بطرحه لمفهوم الطائفية علىانه يقدم في الشرق الأوسط عموماً وفي لبنان خصوصاً، أسساً وركائز لديموقراطية هي أنجح من الأفكار الليبرالية الغربية في تقديمها للفردانية على انها العنصر الأساسي في المجتمعات الديمقراطية. ويعني حريق بالطائفية ليس المفهوم الذي شوه بالاستعمال اليومي والصحفي في لبنان فأصبح يعني التمييز المذهبي، بل الطائفية على انها الولاء لتكتل اجتماعي سياسي مبني على أساس الإنتماء العرقي او المذهبي المبني على القرابة او الإنتماء الى قرية او بلدة.
فبرأي حريق ان الفردانية لا تقدم حلولاً ديموقراطية في الشرق الأوسط لأن الأفراد في هذه المجتمعات لا يعانون من هيمنة المجموعات الذين ينتمون اليها عليهم بل من هيمنة الانظمة الحاكمة القمعية عليهم وعلى المجموعات التي ينتمون اليها. ويعتبر حريق ان التكوينات الطائفية لا تقوم على أسس عقائدية منظمة بل على أسس حدسية تسمح للفرد بأن يعبر عن نفسه في إطار المجموعة على مختلف المستويات. وعليه فان الافتتان بمفهوم الفردانية الغربي والدعوة الى الإنقلاب على وتفكيك الافكار التقليدية والتشكيلات الاجتماعية الموروثة لن يؤدي الى نشوء مجتمعات ديموقراطية في الشرق الأوسط. ويعطي مثلاً بأن الأنظمة الكليانية سواء اكانت فاشية ام شيوعية قامت بمحاربة هذه المجموعات واعتبرت الفرد هو أساس المواطنية مهما كان انتماؤه، ورغم ذلك فان هذا المواطن لم يكن يملك الحقوق المدنية والسياسية التي تنص عليها الإعلانات المختلفة للأمم المتحدة. تبدو مقالة حريق المعترضة مدخلاً مغرياً لمناقشة المقالات الأخرى في الكتاب ولا سيما تلك التي تنحو الى الدعوة الى الفردانية على انها شرط مسبق للديموقراطية وعملية موازية للتقدم والتطور. غير ان ابقاء تعريف هذه المجموعات مبهما في الإطار الشرق الأوسطي يثير تساؤلات عن مدى صلاحية هذا النموذج الذي يتحدى في آن واحد مفهوم الكليانية ومفهوم الفردانية، وإمكانية استخدامه في بناء مجتمعات ديموقراطية شرق أوسطية. ويبدو لي ان حريق كان يحاول باستمرار التعميم من تجربة الطائفية في لبنان على المجتمعات الأخرى ويقول حريق بأن ليس هناك من نظام غير النظام اللبناني يلحظ اي حقوق قانونية لهذه المجموعات وان كانت العديد من الأنظمة في الشرق الأوسط تلحظ حقوقا دستورية للفرد.
ويقدم حريق الطائفية في لبنان على انها من العوامل المهمة التي وقفت في وجه النزعات الديكتاتورية. كما يعتبر ان الطائفية وان أدت الى انقسامات في بلدان مختلفة من الشرق الأوسط إلاّ ان ليس كما يدعي البعض قمعية تجاه الأفراد، فهي ليست منظمة بشكل رسمي وليس لديها أدوات لتنفيذ إرادتها. يبدو لي ان حريق يغفل مثلاً المحاكم الروحية في لبنان التي تشكل الإمتداد القضائي للطائفية وهي تتمتع بأدوات متعددة تطاول جميع نواحي الأحوال الشخصية. كم انه يغفل مثلاً جرائم الشرف في المجتمعات العربية التي هي نتيجة لتفاهم ضمني بين النص القضائي والمجتمعات الطائفية او القبلية.
في قسمه الثاني ينتقل الكتاب من دراسة "السياسة والمجتمع" الى نقاش "الثقافة والتعبير الإبداعي." تأسر مقالة ابراهيم العريس، بتحليلها لتطور صورة الفرد في السينما العربية، خيال القارئ بانفلاتها من الأطر الإيديولوجية للكتاب والتعبير عن هشاشة الفرد في المجتمعات العربية عبر الأفلام المختلفة التي تتعرض لها. فنرى كيف تنتقل الشخصيات في السينما العربية من رمزية الخير و الشر المطلقة الى الشخصيات في افلام الستينيات، المنبثقة من مشاريع سياسية ترى في السينما أداة للتعبير عن صراعتها وفق معايير عقائدية. سينما "القضايا" هذه تزيل عن الشخصيات صفاتها الذاتية وتجعل منها رموزا اجتماعية. ويوضح العريس كيف يؤدي التراث الفكري العربي الموروث الذي يمنع كشف الذات الى ضرورة إبراز الآخر كي تتحدد معالم الذات، وكيف يكون هذا الآخر هو إما العدو او الهامشي او المهمش من قبل المجتمع. يقدم هذا الاخر وفق انماط جاهزة، "المسيحي" او "اليهودي"، او نماذج مرَضية يجب عزلها عن المجتمع "الصحيح" فقط لانها مختلفة. وحين يبرز هذا الآخر بطريقة تبتعد عن التنميط كما في فيلم "رجل الرماد" لنوري بوزيد، في تصويره لصورة الجد اليهودي، "ينال بوزيد النقد الذي "يستأهله" على يد ليس فقط الرقابة العربية، بل ايضاً مثقفون ومخرجون عرب كثيرون، لم يتحملوا ان يروا يهودياً مصوراً في فيلم عربي بهذه الدرجة من التعاطف والإيجابية، حتى ولو كان في مثل هذه الحالة، يهودياً عربياً مصمماً على ان يبقى عربياً او يموت في تونس" (ص 204).
هذا التعبير الدقيق عن درجة القمع الممارس اجتماعياً للفرد والفردية في المجتمعات العربية كما يعبر عنه ابراهيم العريس في تحليله للسينما العربية، يقدم في أوقات كثيرة، وسيلة انجح للتعاطف مع فكرة الفردانية اكثر من المسوغات الليبرالية المباشرة، السياسية والاقتصادية، التي تقدم في اماكن اخرى من الكتاب.
يتعامل العريس مع موضوع البحث عن الهوية بوصفه وسيلة تتحقق معها الذات عبر صراعها لإيجاد تاريخ مغاير يتحرر من السلطة على جميع مستوياتها الصغرى والكبرى وينفلت من الإيحاءات العقائدية للتاريخ "السائد" فينتج بحالة السينما تعبيرات فردية مبدعة.
يبرز سؤال هنا، كيف يمكن للمجتمعات العربية ان تقدم إطارات لعمليات بحث عن الهوية مشابهة يقوم بها الأفراد ليس فقط في المجالات الإبداعية بل أيضاً في محاولتهم لإنتاج أراء ومواقف من السياسة والمجتمع والاقتصاد وفي محاولتهم لتشكيل شخصيات مستقلة ليست مبنية على البديهيات الموروثة ؟ فما هي المدارس الفكرية التي يمكن لها ان توفر فضاءً نقديا يمكن من خلاله القيام بهذه العمليات ؟ وهل تتوفر القاعدة الفكرية لهذه العمليات اساسا في البلدان العربية المختلفة ؟ ام يجب على المثقفين العرب ان يتبنوا الليبيرالية في شكلها السائد كوسيلة لاحتضان بحث الفرد عن الهوية؟ لنأمل ان يمهد هذا الكتاب لنقاش جدي يتناول موضوع الهوية الذاتية و الفردانية من دون وطئ الموروثات العقائدية والفكرية عليها.
نشرت هذه المقالة في ملحق النهار ٢٠٠١
First published in Annahar Cultural Supplement in 2001
|